كنيسة القديس استبانوس.. جوهرة أرمنية وصرحٌ روحي على ضفاف أرس شمال غربي إيران

في قلب جبال أذربيجان الشمالية الغربية وعلى ضفاف نهر أرس الحدودي، تقف كنيسة القديس استبانوس شامخة كتحفة معمارية وروحية تجسد الحضور العريق للمسيحيين الأرمن في الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية.

تعرف الكنيسة بأنها ثاني اهم صرح ارمني بعد كنيسة القديس تادئوس، وقد ادرجتها منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي نظرًا لقيمتها التاريخية والفنية والدينية.

وفي اطار تسليط الضوء على هذا الارث الفريد، قام فريق وكالة يونيوز للأخبار بزيارة الكنيسة ورصد تفاصيلها المبهرة، بدءا من جدرانها الحجرية المهيبة، مرورا بزخارفها الارمنية الدقيقة، وصولا الى موقعها الفريد المحاط بالجبال والوديان.

الرحلة الى استبانوس ليست مجرد زيارة لمكان اثري، بل هي عودة الى صفحات من تاريخ التعايش الديني والثقافي على ارض ايران، حيث تتقاطع العمارة الارمنية مع الجغرافيا الايرانية في لوحة واحدة تثير الدهشة والاعجاب.

تقع كنيسة القديس استبانوس في محافظة أذربيجان الشرقي شمال غرب ايران، على بعد نحو 17 كيلومترا من مدينة جلفا، وحوالي 3 كيلومترات جنوب نهر أرس.

وتتموضع الكنيسة في واد عميق يعرف محليا باسم "قزل وانك" او "وادي القديس استبانوس" أو "وادي القديسين"، ويحيط بها منظر طبيعي جبلي وصخري يضفي عليها جمالا وهيبة.

هذا الموقع الاستراتيجي جعل من الكنيسة نقطة بارزة على الحدود الايرانية مع منطقة نخجوان، كما جعل من رحلة الوصول اليها تجربة سياحية مميزة تجمع بين جمال الطبيعة وسحر التاريخ.

ولم تتوقف اهمية الكنيسة عند هذا البعد الجغرافي، إذ يكتسب موقعها بعدا استراتيجيا إضافيا لكونه ملاصقا لممر زنغزور، وهو شريط جغرافي ضيق يمتد عبر اقليم سيونيك في ارمنيا ويربط اذربيجان بمنطقة نخجوان، ومن ثم الى تركيا.

ويمر هذا الممر بمحاذاة الحدود الايرانية-الارمنية، مما يضع الكنيسة في نقطة تماس حساسة بين هذه الدول. ويضيف هذا التقاطع بعدا جيوسياسيا هاما، خاصة بعد اعادة فتح الممر بموجب اتفاقيات حديثة بين ارمنيا واذربيجان بوساطة دولية.

ويكتمل معنى اهمية الكنيسة عندما ننتقل الى تاريخها العريق، اذ ترجع اصول كنيسة استبانوس الى قرون بعيدة في التاريخ المسيحي، اذ تشير بعض المصادر الى وجود بناء كنسي في هذا الموقع منذ القرن السابع او التاسع الميلادي.

وقد مرت الكنيسة بموجات متتالية من التدمير واعادة البناء نتيجة للحروب والزلازل والتحولات السياسية، مما جعلها شاهدة على عصور مختلفة من تاريخ المنطقة.

ويحمل اسم الكنيسة ذكرى القديس استبانوس، وهو ما منحها مكانة دينية خاصة لدى الارمن، وعلى مدى القرون، لم تكن الكنيسة مجرد مكان للعبادة، بل مركزا للتعليم الديني والرهبنة الارمنية.

وتعد ثاني اهم مجمع ديني ارمني في ايران بعد كنيسة القديس تادئوس، وفي عام 2008، ادرجتها منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي كجزء من "التجمعات الرهبانية الارمنية في ايران"، تقديرا لقيمتها الروحية والمعمارية والثقافية.

ومع غنى تاريخها، شهدت الكنيسة فترات من الازدهار خاصة في العصور الوسطى، حيث كانت مركزا لنسخ المخطوطات الدينية وانتاج اللوحات الفنية، غير انها تعرضت في فترات اخرى للضرر جراء غزوات المغول والسلجوقيين فضلا عن الزلازل التي ضربت المنطقة.

ومع ذلك، اعيد ترميمها مرات عديدة، وكان اخرها في العصور الحديثة، في اطار جهود الحفاظ على هذا المعلم الفريد وحمايته من عوامل الطبيعة.

من الناحية المعمارية، تتميز كنسية القديس استبانوس بأسلوبها الارمني الاصيل، حيث تعلوها قبة مركزية قائمة على حجرة الصلاة، وتحيط بها جدران حجرية متينة بنيت من الصخور المحلية كالبازلت والحجر الرملي.

وتتزين واجهاتها بنقوش دقيقة وزخارف تعكس الفن الارمني الكنسي في ابهي صوره. الى جانب الكنيسة الرئيسة، تضم الكنيسة برجا للأجراس وعناصر معمارية مقببة تضيف اليها طابعا مهيبا. وما يميزها اكثر هو السور الحجري والابراج الدفاعية التي تحيط بها، مما يدل على ان دورها لم يكن دينيا فقط، بل ايضا مجتمعيا ودفاعيا، حيث وفرت الحماية للرهبان وللسكان المحليين في اوقات الاضطراب.

ويكتمل المشهد بانطباع طبيعي ساحر، إذ تحيط بالكنيسة مناظر طبيعية اسرة، حيث تتجاور الجبال الشاهقة مع الوادي العميق الذي يطل على نهر أرس.

هذا الموقع الفريد يجعل من استبانوس مكانا يجمع بين الجمال الطبيعي والقدسية الروحية، ولذلك فهي اليوم مقصد للزوار والسياح والباحثين الذين يأتون لدراسة فنون الارمن التقليدية والتأمل في جمال الطبيعة والعمارة معا.

في السياق، قال مدير جيوبارك يونسكو العالمي ميثم نجف زاحد، إننا "نحن اليوم في خدمتكم داخل أحد المواقع النشطة والجميلة لجيوبارك يونسكو العالمي - أرس، تقع هنا كنيسة القديس استبانوس، التي تعد أحد أبرز المواقع التاريخية والثقافية".

وأضيف "يرجع قدم الكنيسة إلى أكثر من ألف ومئتي سنة، وهي من أهم الكنائس الأرمنية في المنطقة، ويزور المكان سنويا عدد كبير من السياح الأجانب"

و "المكان يعكس مزيجا فريدا من الحضارة والثقافة والتاريخ، ويظهر التعايش بين المسلمين والمسيحيين على ضفاف نهر أرس. إلى جانب كنيسة القديس استبانوس، توجد كنيسة السيدة مريم وكنيسة تشوبان وعدد من الكنائس الأخرى، جميعها جزء من جيوبارك أرس العالمي".

منذ عام 2023، أصبح جيوبارك أرس ثاني جيوبارك عالمي في إيران، وثاني جيوبارك عالمي في الشرق الأوسط، ويضم 15 موقعا جيولوجيا نشطا و16 موقعا آخر في طور التفعيل، لتصل في النهاية إلى 31 موقعا، وجود هذا العدد الكبير من المواقع يعود إلى تنوع الظواهر الجيولوجية المميزة، إضافة إلى وفرة الآثار التاريخية والثقافية والحضارية".

في السياق، قال سائح إيراني "جئت من تبريز، وأنا سعيد جدا بهذه الزيارة، خاصة بعد مرور وقت طويل منذ زيارتي السابقة، الزيارة الحالية منحتني فرصة لرؤية المكان بمزيد من التفاصيل وبمعلومات أكثر دقة".

وأضاف "أثناء الطريق كنت أقرأ عن التاريخ، وعرفت أن الملك كوروش الكبير في العصر الهخامنشي كان حينها يحكم أجزاء من إيران تشمل أذربيجان، وقد وضع مسؤولا أرمنيا لإدارة هذه المنطقة، ومن هنا جاء بناء الكنيسة الأرمنية التي نراها اليوم، لتصبح واحدة من أهم المعالم التاريخية والدينية في المنطقة".

من جانبه، خبير السياحة والجيوبارك في المنطقة أرس الحرة أكبر همت بور، قال إنّ "كنيسة القديس استبانوس تقع على بعد 18 كلم غرب جلفا، وهي معلم تاريخي يعود إلى القرن التاسع الميلادي، وقد أدرجت ضمن التراث العالمي منذ أكثر من ألفي وثمانمائة سنة".
 


تعد الكنيسة واحدة من أكثر المواقع زيارة في شمال غرب إيران، وقد شيدها الأرمن الذين كانوا يعيشون على بعد خمس كيلومترات غرب الموقع الحالي، قبل أن يقرروا بناء هذا الدير هنا، تقام مراسم دينية سنويا في هذا المكان، بأمر من كاتدرائية الأرمن الكبرى في أذربيجان.

الكنيسة مبنية من حجر الطوف البركاني (الحجر المخملي) وملاط ساروج، وهي مثال على البنية التاريخية المتينة التي تزيد على ألف سنة. جميع المباني التاريخية القديمة خاضعة دائما لأعمال الصيانة والترميم، لأنها تقع في مناطق نائية ويعيش الناس في محيطها. كما تحتوي الكنيسة على حصن صغير وسبعة أبراج للمراقبة والدفاع، ما يعكس أهمية الموقع التاريخية والاستراتيجية".

ليست كنيسة القديس استبانوس مجرد كنيسة قديمة، بل هي شاهد على تداخل التاريخ والثقافة والروحانية عبر القرون، فهي تجمع بين جمال العمارة الارمنية وقدسية المكان وروعة الطبيعة الجبلية التي تحتضنها، وادراجها ضمن التراث العالمي هو اعتراف بقيمتها الانسانية، لكنه ايضا دعوة الى المحافظة عليها لتبقى منارة ثقافية وروحية للأجيال المقبلة.

تم نسخ رابط الخبر